اتقوا الله وصلوا أرحامكم
بسم الله الرحمن الرحيم
في مطلع سورة النساء قال الله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً.
وعن ابن كثير في 'تفسيره' في قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام): واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن برّوها وصلوها.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'اتقوا الله وصلوا أرحامكم'.
قال شيخنا الألباني رحمه الله عقب تخريجه الحديث وتصحيحه: والحديث كالتفسير لقوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) لأن المعنى: اتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو المعنى الذي اختاره ابن جرير من حيث الأسلوب العربي.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك.
ثم قال: وقرن الأمر بتقواه، بالأمر ببر الأرحام، والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق.
ثم قال: وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموماً، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها.
لا بد من صلة الأرحام
1 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت'.
2. عن أبي أيوب الأنصاري أن أعرابياً عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيرة فقال: أخبرني ما يقربني من الجنة ويباعدني من النار! قال: 'تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم'.
3. عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه'
صلة الأرحام
كان من أول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة: فعن زرارة بن أبي أوفى قال: حدثني عبد الله بن سلام قال: 'لما قدم النبي e المدينة أنجفل الناس قبله، وقيل: قد قدم رسول الله ، قد قدم رسول الله ، قد قدم رسول الله (ثلاثاً)، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال:
'يا أيها الناس! افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام'.
صلة الرحم أفضل من عتق الرقاب
أن ميمونة بنت الحارث إحدى أمهات المؤمنين للنبي e أنها اعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي e، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلت؟ قالت: نعم. قال أما أنك لو أعطيتها لأخوالك كان أعظم لأجرك.
وفي رواية: لو وصلت بعض أخوالك.
أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: على ذي الرحم الكاشح. ومعنى الكاشح: هو الذي يضمر عداوته في باطنه.
أرحامكم، أرحامكم
1. حث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم، حتى في مرضه الذي قبض فيه، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: 'أرحامَكم، أرحامَكم'.
2. والأرحام كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز: هم الأقارب من النسب من جهة أمك وأبيك، وهم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) 'الأنفال:75' وأقربهم الآباء، والأمهات، والأجداد، والأولاد، وأولادهم وما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الأخوة وأولادهم، والأعمام والعمات، وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم
3. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله سائل قائلاً من أبرّ يا رسول الله؟ قال: 'أمك' قال: ثم من؟ قال:'أمك' قال: ثم من؟ قال:'أمك' قال: ثم من؟ قال: 'أباك، ثم الأقرب فالأقرب'.
4. لذلك نجد النبي المصطفى يحث على معرفة النسب من أجل صلة الرحم. عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فأتاه رجل فسأله: من أنت؟ قال: فمت له برحم بعيدة فألان له القول، فقال:
5. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرفوا أنسابكم، تصلوا أرحامكم، وإن كانت قريبة؛ فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة، ولا بعد بها إذا وصلت، وإن كانت بعيدة.
6. عن أبي هريرة عن النبي eقال: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (مثراة في المال، منسأة في الأثر): هو قوله عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ.
ومعنى ينسأ له في أثره: أي يبقى ذكره في الخير حتى بعد وفاته.
ومعنى مثراة في المال: أي يكثر ماله ويبارك فيه.
صلة الرحم أول خلق وصفت به خديجة النبي
أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْوَحْيِ بِغَارِ حِرَاءٍ أنه رَجَعَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ:
كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ'.
ووصف أبي سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ النبي صلى الله عليه وسلم لهِرَقْلَ فكان مما قاله:
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا، قَال:َ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا.
إلى أن قال هرقل: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ.
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي امتدحه الله تعالى فقال فيه (وإنك لعلى خلق عظيم) كان يأمر بصلة الأرحام كما كان يأمر بالصلاة لأهمية ذلك. فكانت قريش المنتصر منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم والخصم يعلمون منه هذا الخلق الجليل الرفيع.
بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام
1. قال الإمام النووي: يستحب أن يقدم في البر الأم، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الأخوة والأخوات، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام، كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ويقدم الأقرب فالأقرب، ويقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرم، كابن العم وبنته وأولاد الخال والخالات، وغيرهم، ثم المصاهرة، ثم بالمولى من أعلى وأسفل، ثم الجار، ويقدم القريب البعيد الدار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخر قدم على الجار الأجنبي، وألحقوا الزوج والزوجة بالمحارم. والله أعلم'.أ.هـ
والمسلم البر التقي هو صانع المعروف في أهله وأرحامه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'ليس الواصل بالمكافيء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها'.
2. عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر ، فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت:لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: 'من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه بعده'.
قال الحافظ ابن حجر في 'الفتح': أي الذي إذا منع أعطى، قال الطيبي: المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافيء صاحبه بمثل فعله، ولكن من يتفضل على صاحبه. وقال الحافظ: ههنا ثلاث درجات:
- واصل.
- ومكافيء.
- وقاطع
فالواصل من يتفضَّل ولا يُتفضَّل عليه. والمكافيء من يصل ولا يزيد على ما يأخذ، والقاطع الذي يُتفضَّل عليه وهو لا يتفضَّل.
وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين، فمن بدأ حينئذ فهو الواصل، فإن جوزي سمي من جازاه مكافئاً.
لذلك جاءت الأحاديث ترغب الواصل رحمه ومنها:
1. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه'.
2. 'من أحب أن يوسع الله عليه رزقه'..الحديث.
3. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 'الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله'.
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته'. ومعنى شجنة من الرحمن: الشجنة: عروق الشجر المشتبكة، فيعني أنها أثر من آثار رحمة الله مشتبكة.
5. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة. وهذا يعني أن على الولد أن يبر والده، فإما ان يحفظ ذلك الباب أو يضيعه.
6. عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر.
7. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
8. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها.
فصلة الأرحام سبب مهم في كثرة المال، وطول العمر، ومحبة الأهل، والذكر الطيب في الدنيا وبعد الموت، وفي دخول الجنة، ومغفرة الذنوب، ورفع الدرجات في الآخرة. فهل لك أن توصلهم ولو بالسلام، عاملاً بأقل ما طلبه منك النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه إنما أنا رحمة مهداة. عن سويد بن عامر الأنصاري قال: قال رسول الله : ' صلى الله عليه وسلم بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام